مخطط تركي للوصاية على ليبيا والمغرب العربي

عدن24 | قسم أبحاث مركز (MenaCC)

يواجه على المدى القريب التدخل التركي في ليبيا تصادماً وشيكاً مع قوى إقليمية ودولية لكن احتمالات التورط في صراع عسكري ضعيفة. اذ ان هذا التصادم الذي لا تريده اسطنبول وان حصل لن يكون عسكرياً، في حين يمكن تبرير إصرار تركيا على حماية حكومة طرابلس بالرغبة التركية الجامحة في توسيع مساحة النفوذ في المغرب العربي الاخذة في التمدد بشكل متسارع منذ ثورات الربيع العربي. وهو ما حفز تركيا لتطبيق مشروع وصاية ناعمة على المغرب العربي.

وتستغل تركيا مرحلة الصراع والانقسام التي تشهدها ليبيا حالياً كأكثر فرصة مناسبة لبدء تنفيذ مخطط قديم تم احيائه عقب ثورات الربيع العربي والمتمثل في توسيع النفوذ التركي في العالم العربي من خلال بوابة المغرب العربي. ويقتضي نجاح المخطط التركي الهادف لزعامة إسطنبول للعالم العربي والإسلامي على المدى المتوسط، بدء تطبيق وصاية ناعمة على بعض البلدان باستغلال حالة التفكك وزيادة ترهل العمل العربي المشترك.

وحسب إدارة رصد المخاطر في مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية (MenaCC) فانه على الرغم من استعراض القوة، ليس من المرجح أن تتصادم تركيا عسكرياً مع قوى إقليمية ودولية بسبب صراع النفوذ على ليبيا. اذ أن دخول تركيا على خط الأزمة الليبية تبرره مصلحة اقتصادية في الدرجة الأولى. حيث تريد أنقرة كسب تعاطف ولاء صناع القرار في طرابلس من أجل تحفيز التجارة والمصالح وتعويض خسارة بنحو نصف مليار دولار جراء تراجع صادرات تركيا الى ليبيا. اذ تعتبر ليبيا الوحيدة عربياً الذي تراجع فيها نشاط التجارة التركي بعد ثورات الربيع العربي.

وفي حال نشوب صراع مسلح قد يكون وشيكاً بزيادة احتمال هجوم قوات الجيش الليبي بقيادة الجينرال المتقاعد خليفة حفتر على طرابلس لاستعادة السيطرة عليها، لا تتضح في الأفق أي نوايا لأي تحركات عسكرية تركية جدية للاشتراك المباشر فيه. اذ لا يبدو أن تركيا مستعدة لإنفاق أموال دافعي الضرائب الأتراك على صراع قد تتورط فيه لسنوات. لكن على الرغم من عدم جدية إسطنبول في دخول حرب لنصرة حليف اسلامي لها في ليبيا، الا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد يصرّ على تقديم الدعم بأشكال مختلفة لحكومة الوفاق الليبية المتحالفة مع الإسلاميين وذلك من أجل تمهيد مرحلة زيادة النفوذ التركي في ليبيا.

وقد قفزت صادرات تركيا الى الدول المغاربية بعد ثورات الربيع العربي بنحو ملياري دولار إضافية تقريبا حققتها حكومة أردوغان بفضل التقارب مع الأنظمة الجديدة وخاصة التي تشارك أحزاب إسلامية في حكمها. وفي حين حققت تركيا هذه الأرباح لم تحقق الدول المغاربية شيئا يذكر من التقارب مع إسطنبول، اذ تميل موازينها التجارية الى السلبي مع أنقرة.

وبإصرار تركيا على زيادة توسيع نفوذها من خلال دخول بوابة ليبيا عبر طرابلس ودعم شرعية الإسلاميين في حكومة الوفاق التي يترأسها فايز السراج، يضع أردوغان نصب اعينه زيادة موطئ قدم في هذه المنطقة وتحقيق اقصى المصالح الممكنة لفائدة بلاده بغض النظر عن مسار تنمية هذه الدول المصطدم بالتحالفات المضادة والخلافات التي يبدو أن تركيا تستفيد من تغذيتها لتكون الشريك التجاري والاقتصادي والعسكري التفاضلي لهذه الدول.

زيادة النفوذ الاقتصادي التركي في دول المغرب العربي عبر البوابة الليبية

تتجه تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان الى الإسراع في تنفيذ مخطط قديم تم احيائه عقب ثورات الربيع العربي والمتمثل في دعم توسيع النفوذ التركي في العالم العرب والاسلامي. واعتبر المغرب العرب البوابة الرئيسية الذي تعزز النفوذ التركي من خلالها. ولعل سرعة تمرير حكومة أردوغان اتفاق التعاون الأمني مع حكومة الوفاق الليبية عقب الاتفاق البحري يشير الى دلالة واضحة على رغبة تركية جامحة في استقطاب ليبيا ضمن المحور الليبي بعد ان ضمت ليه كل من قطر وتونس ودول عربية أخرى بشكل غير مباشر وخاصة تلك التي تحكمها أحزاب إسلامية او مشاركة في السلطة.

وقد زادت مساحة النفوذ التركي الاقتصادي في دول المغرب العربي بعد صعود أحزاب إسلامية الى الحكم في كل من تونس وليبيا والمغرب. وعلى سبيل المثال يعتبر السبب الرئيسي وراء الزيادة الحادة في الصادرات التركية الى دول عربية منذ 2011 هو أن “الربيع العربي” قد أثر سلبًا على الوضع الاقتصادي للدول، وساعد على تحول في العلاقات السياسية بين تركيا وهذه الدول[1]. تحول تمثل في تقارب تركي مع نخب حاكمة جديدة تتشارك مع إسطنبول فكرة البراغماتية الإسلامية.

تعزز توسع النفوذ الاقتصادي التركي خاصة مع النمو المتصاعد لوتيرة تدفق المنتجات التركية الى هذه الدول وما يخلقه ذلك من خلل في التبادل التجاري الذي يميل لصالح تركيا فقط. وبذلك فان تقارب تركيا مع دول المغرب العربي لم يكن بقصد خلق تنمية في هذه الدول بقدر ما كانت غايته فتح أسواق جديدة امام البضائع والسلع والاستثمارات التركية.

وقد قفزت قيمة صادرات تركيا الى دول المغرب العربي بعد ثورات الربيع العربي الى نحو 6.570 مليارات دولار في 2018[2] مقارنة بنحو 4.857 مليارات دولار في 2010[3] أي بنحو زيادة قدرت بنحو أكثر من 1.713 مليار دولار[4] خلال 8 سنوات فقط. في المقابل تراجعت قيمة الورادات التركية من هذه الدول التي تسجل عجزا تجاريا ضخما مع تركيا حيث لا تتعدى قيمة صادراتها الى الأسواق التركية نحو 2.4 مليار دولار[5] ما يعادل نحو ثلث قيمة وارداتها من تركيا التي نمت بسرعة كبيرة في فترة ما بعد ثورة الربيع العربي.

وما يثير الاهتمام في علاقة التقارب غير المتكافئ بين تركيا ودول المغرب العربي هو إصرار إسطنبول على زيادة حصة نفوذها التجاري ومصالحها مع ليبيا. وتمثل ليبيا بشكل خاص السوق المغاربية الوحيدة التي تراجعت فيها قيمة الصادرات التركية. وعلى الرغم من أن ميزان التبادل التجاري بين تركيا وليبيا هو لصالح الاتراك، حيث تستورد ليبيا من تركيا بقيمة أكثر من 1.5 مليار دولار[6] في حين لا تتعدى الصادرات الليبية الى الأسواق التركية 367 مليون دولار[7]، لكن قيمة الصادرات التركية الى ليبيا مع ذلك تراجعت بنحو أكثر من 400 مليون دولار مقارنة بسنة 2010 حيث كانت تناهز نحو 1.932 مليار دولار[8]. وبذلك من المرجح أن تركيا مصرة على تدارك هذا التراجع وزيادة بسط النفوذ وتحسين العلاقات التجارية مع ليبيا في مقابل تقديم تركيا لدعم لوجيستي وعسكري لطرف واحد في ليبيا متمثل في حكومة السراج المدعومة من الاسلاميين.

ولذلك فان إصرار تركيا على التقارب مع ليبيا حتى وان اقتضى ارسال قوات عسكرية من اجل الاستعراض على الاغلب، تبرره المصلحة المالية وتحقيق تفوق تجاري، إذا أن قيمة التبادل التجاري قفز مع جل الدول المغاربية ما عدى ليبيا. ولهذا السبب تعمل السلطات التركية على زيادة فتح أبواب السوق الليبية أمام البضائع التركية. ولكن ليس هذا المبرر الوحيد لزيادة الدعم التركي للسراج والإسلاميين، فتقديم الاتراك لدعم من شأنه ان يساعد على بسط نفوذ الإسلاميين واستمرارهم في السلطة يُمكّن في النهاية من تعزيز ولاء أصحاب صنع القرار في طرابلس لإسطنبول.

ولم تقتصر علاقات التقارب المثيرة بين تركيا ودول عربية على منطقة المغرب العربي بل تعدتها الى دول أبرزها قطر حيث نما صادرات تركيا اليها منذ احداث الربيع العربي الى اليوم بنحو أكثر من 6 مرات من نحو 162 مليون دولار في 2010 الى نحو 1.1 مليار دولار في 2018[9]. وكذلك تسجل قطر عجزا تجاريا ضخما مع تركيا حيث لا تتعدى قيمة الصادرات القطرية الى تركيا نحو 367 مليون دولار في 2018. وعلى صعيد الشرق الأوسط ككل، تعتبر إسرائيل أكبر شريك تجاري لإسطنبول حيث تستورد بنحو 3.9 مليارات دولار في 2018 من تركيا بينما لا تصدر الا نحو 1.713 مليار دولار في 2018[10]. وفي حين ان جل الدول العربية والإسلامية وحتى إسرائيل تسجل عجزا تجاريا امام تركيا نظرا لتفوق الصادرات التركية على ورادات هذه الدول، تمكنت دولة الامارات العربية المتحدة فقط من قلب الميزان التجاري مع تركيا لصالحها، حيث فاقت صادرات الامارات الى الأسواق التركية نحو 3.780 مليارات دولار في 2018 مقابل تراجع قيمة الواردات التركية بنحو 3.13 مليارات دولار في 2018[11].

رغبة تركية في الوصاية الناعمة على دول عربية

ساعدت حالة الانقسام وزيادة الصراعات المباشرة وغير المباشرة بين الدول العربية على تمدد النفوذ التركي في عدد من بلدان العالم العربي مستفيدا من اتفاقيات مختلفة عادت بالنفع على الداخل التركي. فتركيا ليس من مصلحتها مطلقاً في ظل استراتيجية توسعها الناعم حدوث أي تحسن في التكامل العربي وتستفيد جداً من تغذية الخلاف بين الدول العربية ومن التحالفات المضادة، حيث تقدم نفسها كداعم للشعوب، بينما يعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنفسه مرارا أن تركيا همها الوحيد تحقيق مصلحة الدولة والقومية التركية.

من خلال التحالفات مع الأحزاب والقوى الإسلامية الحاكمة أو المشاركة في الحكم في دول عربية مختلفة تسعى أنقرة الى توسيع نفوذها وزعامة العالم الإسلامي والتأثير في القرار العربي، على أن تكون إسطنبول بمثابة البيت الأبيض الإقليمي الجديد الذي ترجع اليه حكومات حليفة للتنسيق والمشورة.

وقد رصد مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية ظهور مخطط توسيع نفوذ تركيا للعلن ليس من خلال البوابة الليبية فحسب ولكن كان سبق لحكومة أردوغان توسيع نفوذها في تونس والمغرب وقطر من خلال عرض الدعم الاقتصادي واللوجستي وصولا الى الدعم العسكري ومناصرة هذه الدول التي تبحث كثير منها عن تحالفات جادة في ظل تفجر ظاهرة التحالفات المضادة في العالم العربي.

ولا يبدو هذا الحلف بعيدا عن أولويات استراتيجية تركيا المستقبلية في العالم العربي والإسلامي. حيث شدد أردوغان في أكثر من مناسبة على رفض سياسات عدد من الدول العربية كونها لا تميل الى الشعب، بينما لا يعترف هو بانتقادات الغرب الموجهة الى حكومته بسبب قمع أكثر من 60 ألف تركي معتقل في السجون بحجة مشاركتهم في انقلاب يوليو 2016.

الحلف المزعوم والذي تنشده ادارة أردوغان وحزب العدالة والتنمية هو حلف يجمع الدول التي تدين لإسطنبول بالولاء، وتلك التي عرفت الأحزاب الإسلامية فيها طريق الحكم والسلطة. وبالتالي فانه تحالف أيديولوجي غايته مصلحة تركية في المقدمة ومتمثلة في زيادة فتح هذه الدول فرصاً استثمارية للأتراك وأسواق جديدة للبضائع التركية.

وبخلاف ليبيا تخطط تركيا لفرض الوصاية الناعمة على دول عربية تسعى لاستقطابها كحليفة معها في مشروع دعم مسار الحركات الإسلامية في السلطة، وهو نموذج يسعى أردوغان بنفسه الى ترويجه في العالم الإسلامي والعربي. اذ أعلنها صراحة ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن ليبيا باتت تحت مسؤولية تركيا، وذلك بموجب مذكرة التفاهم التي وقعها الرئيس التركي ورئيس حكومة الوفاق فائز السراج[12]. وهذا التصريح يبرر مفهوم الوصاية الناعمة أي التدخل المرغوب في شأن الدول والتي تسعى الى تكريسه تركيا مع حلفائها الجدد.

وليست دول المغرب العربي لوحدها في مخطط توسيع النفوذ المصلحي التركي في العالم العربي بل باتت دول عربية أخرى على راس قائمة الدول التي تتقارب معها إسطنبول من اجل عقد تحالفات تصب في مصلحة تركيا. وليس من المستبعد دعم أردوغان لقيام حلف تركي عربي يناهض التكتلات والتجمعات العربية القائمة على غرار مجلس التعاون الخليجي وجامعة العربية واتحاد المغرب العربي. اذ يمثل اتفاق تركيا وقطر الأمني والعسكري أبرز مثال على رغبة انقرة في تشكيل تكتل جديد يستقطب دولا جديدة. فاتفاق التعاون العسكري مع قطر المثير للجدل يشكل تعارض مصالح مع عضوية قطر في التعاون العسكري تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي المتمثل في درع الجزيرة. وهذا التعارض تحديدا هو ما تسعى تركيا الى تكريسه لزيادة التفرقة والاحلاف المضادة بين العرب.

 

المصدر: مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية (MenaCC)

[1] Abidin Öncel, Amna Malik, The Arab Spring and its Impact on the Foreign Trade of Turkey, January 2015, https://www.researchgate.net/publication/283086387_The_Arab_Spring_and_its_Impact_on_the_Foreign_Trade_of_Turkey
[2] أنظر احصائيات المركز بناء على دراسة تحديث بيانات الواردات والصادرات لتركيا على منصة غلوبال ايدج الاقتصادية، 2019، https://globaledge.msu.edu/countries/turkey/tradestats
[3] أرقام توصل اليها المركز اعتماد على دراسة بيانات الواردات والصادرات بين 2010 World Integrated trade Solution ، https://wits.worldbank.org/CountryProfile/en/Country/TUR/Year/2010/TradeFlow/Export
[4]  أرقام توصل اليها المركز اعتماد على دراسة بيانات الواردات والصادرات بين 2010 و2018 على Global edge  وWorld Integrated trade Solution ، https://globaledge.msu.edu/countries/turkey/tradestats، https://wits.worldbank.org/CountryProfile/en/Country/TUR/Year/2010/TradeFlow/Export
[5] أرقام توصل اليها المركز اعتماد على دراسة بيانات الواردات والصادرات بين 2010 و2018 على Global edge  وWorld Integrated trade Solution ، https://globaledge.msu.edu/countries/turkey/tradestats، https://wits.worldbank.org/CountryProfile/en/Country/TUR/Year/2010/TradeFlow/Export
[6] أنظر تحديث بيانات الواردات والصادرات لتركيا على منصة غلوبال ايدج الاقتصادية، 2019، https://globaledge.msu.edu/countries/turkey/tradestats
[7] أنظر تحديث بيانات الواردات والصادرات لتركيا على منصة غلوبال ايدج الاقتصادية، 2019، https://globaledge.msu.edu/countries/turkey/tradestats
[8] أرقام توصل اليها المركز اعتماد على دراسة بيانات الواردات والصادرات بين 2010 World Integrated trade Solution ، https://wits.worldbank.org/CountryProfile/en/Country/TUR/Year/2010/TradeFlow/Export
[9] أنظر تحديث بيانات الواردات والصادرات لتركيا على منصة غلوبال ايدج الاقتصادية، 2019، https://globaledge.msu.edu/countries/turkey/tradestats
[10] أنظر تحديث بيانات الواردات والصادرات لتركيا على منصة غلوبال ايدج الاقتصادية، 2019، https://globaledge.msu.edu/countries/turkey/tradestats
[11] أنظر تحديث بيانات الواردات والصادرات لتركيا على منصة غلوبال ايدج الاقتصادية، 2019، https://globaledge.msu.edu/countries/turkey/tradestats

[12] أنظر تصريح أقطاي لقناة” التناصح“الذراع الإعلامية للمفتي السابق الصادق الغرياني، ديسمبر 2019.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى